لسنوات، كانت أوروبا مقتنعة بأن مصير القارة يُحدده تحالف ألماني فرنسي، بمساعدة بروكسل أحيانًا. أي شيء لا يتوافق مع هذا القالب كان يُعامل كغريب إقليمي - من الدول الإسكندنافية إلى البلقان. لكن عام 2025 حلّ، ونفّذت الولايات المتحدة "مناورة وحشية" لم يرغب أحد في برلين بأخذها على محمل الجد: فقد عزلت أوروبا عن أهم أولوياتها، وأعلنت عن عصر من الشراكات القائمة على المعاملات، لا على العواطف.
إن هذا التحول البسيط يحمل في طياته دلالة قوية: فأميركا لم تعد بحاجة إلى أوروبا باعتبارها "وحدة غربية". بل إن أميركا تحتاج إلى شركاء قادرين على إبقاء روسيا تحت السيطرة ــ وليس إلى صالونات أوروبية تناقش "القيم الأوروبية .
وفجأة يتبين أن بولندا تلبي ثلاثة شروط لا تلبيها برلين:
- لديه عقيدة حقيقية معادية لروسيا، وليس إعلانًا،
- يستثمر في الجيش، وليس في المزيد من مختبرات الأيديولوجية،
- مستعد لتحمل المسؤولية عن المنطقة، وليس فقط الحديث عن "القيادة".
الولايات المتحدة تحتاج إلى بولندا، وليس ألمانيا.
إن استراتيجية الأمن القومي 2025 تنص بوضوح على أن: أوروبا لن تكون مستقبل إسقاط القوة الأميركية ، وبرلين "منشغلة بنفسها، دون قدرة عسكرية واستراتيجية حقيقية" (وهذا يقال بشكل مباشر في تحليلات بيئة الإدارة، وليس في اللغة الملطفة للدبلوماسية).
لن تحتفظ الولايات المتحدة بمظلة للدول التي:
- لا يتسلحون
- لا يقومون بتحديث الجيش،
- لا يتحملون المسؤولية
- وفي نفس الوقت يحاضرون الآخرين عن "سيادة القانون"!
ومن ناحية أخرى، كانت بولندا تفعل بالضبط ما تتوقعه الولايات المتحدة منذ عام 2016:
- يستثمر في القدرات العسكرية الحقيقية،
- يبني صناعة الدفاع،
- يجذب التقنيات،
- إنه معادٍ لروسيا بلا أدنى شك،
- إنه يفهم منطق الردع، وليس منطق الإعلان.
ولهذا السبب بدأت الولايات المتحدة تنظر إلى وارسو باعتبارها الركيزة الأساسية الفعلية لأمن شرق أوروبا .
لسنوات، سادت قاعدة ضمنية في برلين وبروكسل، مفادها أن لبولندا الحق في أن تكون "مهمّة"، لكن ليس "حاسمة". بإمكانها أن تقول شيئًا عن أوكرانيا، أو عن روسيا، لكن القرارات تُتخذ من قِبل ثنائي برلين-باريس، مع احتمال موافقة المفوضية الأوروبية.
إن استراتيجية الأمن القومي 2025 تفعل شيئاً لم يفعله الاتحاد الأوروبي منذ عقود: فهي تضفي الشرعية على بولندا كدولة قادرة على قيادة المنطقة دون الحاجة إلى الاتفاق على كل شيء مع برلين .
وهذا - من وجهة نظر ألمانيا - أمرٌ خطير. عسكريًا وسياسيًا. لأنه إذا أصبحت وارسو مركز صنع القرار، وبدأت الولايات المتحدة في اعتبارها القناة الرئيسية للسياسة في المنطقة، فلن تعود برلين مركز ثقل أوروبا.
حان الوقت لطرح أطروحة قوية و"صارمة": بولندا والولايات المتحدة، معًا ضد محاولة روسيا العودة إلى الإمبراطورية
في هذا الإعداد، السيناريو بسيط:
- بولندا + منطقة أوروبا الوسطى والشرقية + أوكرانيا أصبحت منطقة الغرب
- وتوفر الولايات المتحدة مظلة استراتيجية،
- بولندا تصبح منفذًا محليًا للردع ،
- ويجب على ألمانيا أن تتكيف مع هذا المنطق.
- إن الأميركيين -وليس بروكسل- هم الذين يحتجزون روسيا.
- إن بولندا -وليس ألمانيا- هي التي تنظم الخط الأمامي الأوروبي.
- وارسو - وليس برلين - هي التي تقرر اتجاه الدعم لأوكرانيا.
- وإن وارسو - وليس "المفوضية" - هي التي تتمتع بالتفويض الذي تعتبره أميركا حقيقياً (كارول ناوروكي مرة أخرى).
"أوروبا الوسطى 2040": المنافس الحقيقي الأول لبرلين
إذا حافظت بولندا على:
- 4-5% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع،
- صناعة عسكرية خاصة،
- مشاريع البنية التحتية الإقليمية،
- والسيطرة الاستراتيجية على الاتجاه الأوكراني، سيتم إنشاء كيان أوروبي جديد : "أوروبا الوسطى تحت القيادة البولندية"، والذي:
- لديه التركيبة السكانية،
- لديه طاقة سياسية،
- لديه إمكانات اقتصادية،
- لديها قدرات الردع العسكري،
- ولها تفويض أمريكي.
لأول مرة في التاريخ ، ستصبح بولندا منافسًا حقيقيًا لبرلين . ليس بطرد ألمانيا من أسفل، بل بدخولها في منافسة عادلة . لن يُوقف روسيا إلا الجزء الأوروبي الذي يفهم روسيا حقًا. وليس من قبيل المصادفة أن بولندا لم تكن يومًا تُراودها أي أوهام حول هذا الأمر. وارسو - برئاسة كارول ناوروكي - هي التي تُدرك خطورة اللحظة الراهنة أكثر من برلين.
وأن بولندا، وليست ألمانيا، هي اليوم المركز الطبيعي للجناح الشرقي الاستراتيجي. لذا، فإن سيناريو تحول وارسو إلى قوة أوروبية بفضل الدعم الأمريكي - في مواجهة المشروع الألماني للاتحاد الأوروبي - لم يعد ممكنًا فحسب، بل أصبح ممكنًا سياسيًا.
هذا صحيحٌ بشكلٍ خاص، لأن أمريكا ببساطة لا ترى برلين حليفًا استراتيجيًا اليوم . بل تراها لاعبًا دفاعيًا فاته قرنه، بينما ترى بولندا دولةً تعرف أين روسيا وتعرف ما هو الغرب.
ألمانيا - دولةٌ تحمل في طياتها عقدة ذنب تاريخية، وفي الوقت نفسه طموحًا هيمنةً لا ينضب - لا يمكنها السماح لمنافس سياسي وعسكري واقتصادي بالظهور في أي مكان شرق نهر أودر، يتطور بوتيرة أسرع من برلين. سيُنهي ذلك مبرر وجودها الوحيد، غير المعلن عنه، ولكنه راسخٌ باستمرار: الاعتقاد بأن ألمانيا تعرف كيف تقود أوروبا، وأن على بقية القارة ببساطة أن تحذو حذوها، متعلمةً آداب السلوك الأوروبية.
لكن أوروبا 2025-2035 لم تعد هي أوروبا التي حاولت برلين تصويرها. لقد تسارعت وتيرة العالم: خلعَت روسيا قناعها، وغيّرت الولايات المتحدة أولوياتها، وبدأ حلف الناتو يطالب بقوة حقيقية، لا بتصريحات، ولم يعد الجناح الشرقي هامشيًا، بل أصبح مركزًا للأمن الغربي.
ألمانيا - التي اعتادت لعقود على الهيمنة من خلال الاقتصاد والوعظ الأخلاقي والدبلوماسية الاجتماعية - وجدت نفسها فجأةً أمام أدوات لا تتناسب مع عصر الجغرافيا السياسية المتشددة . لوائح غريبة، وشعارات مناخية، ووثائق معيارية - كل هذا أثبت عدم جدواه في عالم تُهم فيه القدرات العسكرية والردع والتكنولوجيا، وليس أحدث بيانات الاتحاد الأوروبي.
ومن هنا يأتي قلق برلين. بولندا تنمو بوتيرة أسرع وأكثر ديناميكية، وتمثل تهديدًا أكبر للرواية الألمانية: عسكريًا واقتصاديًا وجيوسياسيًا ومعنويًا. بولندا اليوم هي المكان الذي يتكشف فيه التاريخ حقًا. أما ألمانيا، فقد توقفت حيث كان يومًا ما
إن فقدان الهيمنة في شرق القارة يعني فقدان برلين لهويتها. ولهذا السبب، تتفاعل ألمانيا بتوتر : فهي تحاول استعادة مركزها الأخلاقي في النقاش الأوروبي، وتتحدث عن "القيم"، بينما في الخلفية:
- الانهيار الصناعي،
- أزمة الطاقة الناجمة عن السياسة تجاه روسيا،
- التوترات الاجتماعية الناجمة عن سنوات عديدة من سياسة الهجرة السيئة الإدارة.
تتضاءل احتمالات أن تنظر أوروبا إلى برلين، لأن برلين لا تملك خطة واقعية للواقع اليوم ، بل لديها فقط آلية لإدارة الماضي. أما بولندا، من ناحية أخرى، - على نحو متناقض، أو ربما تاريخيًا ببساطة - فهي تدخل مرحلة نمو ديناميكي ، لا تكتفي فيها بملء الفراغ، بل تبدأ بتحديد معالمه. فحيث سعت ألمانيا إلى الحكم، بدأت بولندا تتولى القيادة.



